إنّ من ركائز بناء البيت المسلم والحفاظ على هويّته وخصائصه، العناية الفائقة بتربية الأولاد وتعليمهم، ومفهوم التربية أعمّ وأوسع من التعليم.
فالتربية: هي تنشئة الولد حتّى يبلغ حدّ التمام والكمال شيئاً فشيئاً، مكتسبًا للخبرات، فهي تربية لا يحدّها سنّ محدّد، ولا أيّ أمر طارئ، كخروج من منزل، أو سفر بعيد..
وتشمل هذه التنشئةُ التربيةَ النفسيّةَ، والروحيّة، والوجدانيّة، والعقليّة، والسلوكيّة، والإجتماعيّة.
وأمّا التعليم: فهو جزء من هذه المنظومة التربويّة، يتضمّن نقل المعلومات التي يحتاج إليها الابن في حياته.
وأولُ ركائز هذه التربية وأساسُها التي لا غنى لها عنه، القدوة الحسنة بأَنْ يكون الأب قدوة حسنة في سلوكه وأقواله، وأعماله كلّها أمام أبنائه قبل كلّ شيء، فقبل أن يربيهم على التخلّق بالخلق الحسن، يجب عليه أن يتّصف هو بمكارم الأخلاق، وهذا هو حال قدوتنا الأوّل عليه الصلاة والسلام، فإنّه كان إذا أمر بشيءٍ عَمِلَ به أوّلاً، ثم تأسّى به الناسُ من بعده، وهذا بلا شكّ أقوى وأوقع في النفس.
وأذكر مثالاً واحداً على ذلك بُغية الإختصار، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، أنّ رجلاً أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، كيف الطهور؟ فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بماء في أناء فغسل كفيّه ثلاثاً، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً، ثمّ غسل ذراعيه ثلاثاً، ثمّ مسح برأسه، فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظهر أذنيه، ثمّ غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثمّ قال:«هكذا الوضوء، فمن زاد أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء».
ثم بعد ذلك على الأب الحصيف أن يتدرّج في تعليمه لأبنائه ولا يستعجل النتائج، ويقدّم الأهمّ فالمهمّ.. وهذا ما نستفيده من قصّة بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معاذاً إلى اليمن.
فالقدوة الصالحة المتمثّلة في الأب مع التدرّج في التعليم للأبناء هي بمثابة الجناحين للطائر ورأسه الصبر وتحمّل مشاقّ التربية والتعليم.
كان عليه الصلاة والسلام يخطب، فدخل عليه رجل غريب يسأل عن دينه، فترك عليه الصلاة والسلام خطبته ودعا بكرسيّ فجلس يعلّمه، ثمّ عاد لخطبته.
وبهذا الصنيع يعطينا عليه الصلاة والسلام درساً لكلّ معلّم ومربٍّ، سواء كان أباً أم غيره، أن يتّصف بالحلم والتواضع والصبر على نشر تعاليم الإسلام وأخلاقياته وغرس مبادئه لدى من يربّي ويعول.
فأولادك أيّها الأب الموفّق أمانة في عنقك، وصلاحك يفيد أبناءك، وهو صلاح لك إن شاء الله تعالى، كما قال سبحانه: {وكَانَ أَبٌوهُمَا صَالحًا} [الكهف:82].
ومن هنا كان لزاماً عليك مسؤوليّة توجيههم وإرشادهم، عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذَّينَ ءَامَنُوا قُواْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ...} [التحريم:66].
وقوله عليه الصلاة والسلام: «كُلكم راعٍ وكُلكم مسؤولٌ عن رعيته، فالأميرُ الَّذِي على الناس راعٍ ومسؤولُ عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبدُ راعٍ على مالِ سَيَّدِهِ وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
ولئن كانت الأمّ مدرسة -كما يقال- فكذلك الأبُ هو أيضاً مدرسة عظيمة في تربية الأبناء لا تقلّ أهميّة عن مدرسة الأمّ، فهو مدرسة في تربية من يعول على الأخلاق الحسنة، ومدرسة لأبنائه في الكسب الحلال، ومدرسة لأبنائه في الكلمة الطيّبة.. الخ.
فعلى الأب أن يستشعر أهميّة هذه التربية المنوطة به، وأنّه من الإساءة للابن والإخلال في الأمانة التي إستودعها الله له أن يتركه من دون تربية وتوجيه.
يقول ابنُ القيم رحمه الله: وصيّةُ الله للآباء سابقة على وصيّة الأولاد بآبائهم، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء:31].
فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدىَ، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنّما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت، إنّك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً..
وعلى الأب أيضاً أن يعرف كيف يتعامل مع مراحل نموّ أولاده، وأن يفرّق بين مرحلة وأخرى، ولا زلنا في الحقيقة نعاني من جفاء بعض الآباء نحو أبنائهم وإحتقارهم وعدم إعطائهم الثقة المنضبطة التي يحتاجونها مهما بلغوا من العمر.
يقول المفكّر محمد قطب: ولئن كانت مرحلة الطفولة مرحلة نموّ وتغيّر دائم لا يتوقّف، حتّى أنّ اليوم الواحد قد يضيف مزيداً من النموّ في بعض الأحيان، سواء في مرحلة المشي أو مرحلة النطق أو مرحلة التقاط الخبرات وظهور الإستعدادات..، ولئن كانت مرحلة المراهقة مرحلة تفجّر جسديّ وروحيّ مع النمو العقليّ المتزايد..فإنّ مرحلة الشباب الباكر الممتدة حتّى النضج هي مرحلة نمو من نوع متميّز..، وليس فيها التغيّر السريع الذي يميّز مرحلة الطفولة ولا التفجّر المتقلّب الذي يصحب مرحلة المراهقة، وإنّما فيها النموّ المفضي إلى النضج وهو لون خاصّ غير اللونين السابقين..
أرأيت إلى الثمرة كادت تنضج؟! إنّ فيها كلّ ملامح الثمرة الناضجة أو معظمها، ولكنّها لم تنضج بعد، وهي تتغيّر وهي تقريباً على صورتها!.
وإنّ التغيّر الذي يحدث فيها لعظيم الأهميّة ولا شكّ، لأنّه هو الذي يؤهّلها لأن تصبح ثمرة ناضجة نافعة مرغوبة ومطلوبة، ولكن لا يكاد يغيّر شيئاً من ملامحها الأصليّة، إنّما يركّز فيها حتّى تصبح في النهاية مكتملة النموّ، وهذه المرحلة في حياة الإنسان أقرب شيء إلى ذلك.
إنَّ ملامح الشخصيّة قد بدأت تبرز، وهناك تغيّر مستمر يطرأ عليها لا يتوّقف، ولكنّه لا يغيّر الملامح الرئيسية بقدر ما يركّزها ويزيدها بروزًا، حتّى تصل إلى صورتها المتكاملة، إنّه لا يضيف عناصر جديدة بقدر ما يقوّي ويركّز ويصقل العناصر الموجودة بالفعل، هذا هو الذي يميّزها أساسًا عن المرحلتين السابقتين.
[] نتائج هذه التربية:
يجب أن يدرك الأب أنّ الهداية من الله، وأن البذرة الطيّبة تبقى طيّبة، وما يبذل الأب من حرص كبير مع أبنائه في سبيل تنشئتهم التنشئة الصالحة لن يذهب سُدَىَ.
ولكن لابد من الأخذ بالأسباب والإجتهاد، مع عدم التعويل على النتائج كثيرًا، فقد يبذل الأب قصارى جهده، ويأخذ بمناهج التربية الإسلاميّة، ومع هذا ينشأ الولد على الشذوذ والإنحراف، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ولد نوح عليه السلام، فأبى الهداية والتربية النبويّة، وإستنكر، وكان مع الكافرين، فعاقبه الله معهم بالطوفان، فأصبح الجميع من المغرقين، وفي هذه الحال يعذر الأب المربّي أمام الله لكونه أدّى ما عليه من الحقوق، وقام بما أوجبه الله عليه من مسؤوليات!!
فهل هناك مجال للشكّ أنّ نوحاً عليه السلام لم يَقُمْ بواجب التربية الصالحة مع ابنه؟ ولكنّها إرادة الله حيث يقول سبحانه: {إِنَّكَ لَاَ تَهْدِيِ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِيِ مَنْ يَشَاءُ} [القصص :56].
الكاتب: فهد الحميزي.
المصدر: موقع رسالة المرأة.